حتى حلّ فجر الثالث من نيسان، دبابات وآليات تعد بالمئات تدخل المدينة وتخترق صمتها "
الحذر"، لتنشر الدمار لأكثر من أسبوعين في كافة أنحاء المدينة المنكوبة.
يخط دويكات صوراً قلمية لتبيان ما حدث، من مآسي المواطنين ومنازل تاريخية في البلدة القديمة
ومواقع شهدت على صمود المدينة طوال قرون، كانت عرضة طوال أيام الاجتياح لاستهداف مباشر
ومتعمد في حرب الاحتلال على الأرض والإنسان.
أول شهيد..
القناصة تمركزوا فوق المباني العالية، يرصدون أي حركة كانت، الدبابات تجول المدينة وسط
قصف شديد، ويسقط أول شهيد...
كان المواطن محمود عكة (42 عاماً)، حسب ما أورد دويكات في كتابه، يهم بمناولة والدته
المريضة دواءها، لاحظه أحد القناصة.. لم يعطه فرصة، وقتله أمام أطفاله الأربعة بعيارات
نارية اخترقت نافذة منزله لتخترق جسده الطاهر ويسقط شهيداً.
وليس ذلك فحسب، فقد منع الجنود نقله إلى المشفى أو حتى المقبرة لمدة خمسة أيام، بالرغم من كل
المحاولات المضنية مع الصليب الأحمر ومؤسسات حقوق الإنسان، فبقي جثمانه في بيته بين أمه و
زوجته و أطفاله خمسة أيام.
ويورد الكاتب دويكات كيف أن الأطفال كانوا يعتقدون أن والدهم الشهيد نائم، فكانوا يتوجهون إليه
للاحتماء به أو يسمعونه شكاويهم "الصغيرة" حول الأحداث، ولكن الاحتلال منعهم من ذلك "
الحضن" الذي كان يمنحهم الراحة والطمأنينة.
ويتواصل القصف، ويتواصل صيد الاحتلال للمدنيين الأبرياء، وتستمر دماءهم في الانهمار دونما
رادع أو وازع إنساني، ويسقط أكثر من 70 شهيداً ومئات الجرحى من الأطفال والنساء والشيوخ.
عائلة "الشعبي"..
وكانت محنة عائلة "الشعبي" علامة واضحة في تلك الفترة على بطش الاحتلال، فقد فقدت هذه
العائلة ثمانية من أفرادها، وبقي منهم المواطن عبد الله الشعبي(65)عاماً، وزوجته شمسة
الطحان (57)عاماً على قيد الحياة، على الرغم من بقائهم لمدة أسبوع كامل تحت ركام منزلهم
المكون من ثلاثة طوابق، والذي هدمته قوات الاحتلال في الخامس من نيسان على من فيه.
وكانت العائلة المكونة من 10 أفراد هم: الناجيين المسنين عبدالله وزوجته، والشهداء: أخوه
عمر (85)عاماً، وابنتا عمر: فاطمة (55)عاماً، وعبير (35)عاماً، وابنه سمير
(47)عاماً، وزوجته نبيلة(37)عاماً، وأبناؤهما عبد الله (
أعوام، عزام (7)أعوام،
وأنس (4)أعوام، تجتمع متماسكة مترقبة لأي عدوان، الأمهات كنّ يحتضن أولادهن، والرجال
كانوا بينهم، حتى جاءت الدبابات الإسرائيلية ناشرة الدمار وهدمت المنزل وعدداً من المنازل
المجاورة على من فيهم.
وبعد أسبوع من الحادث وانتظار "الفرج" وجد أثناء التنقيب بعد رفع حظر التجول في اليوم
العاشر للاجتياح، المسن وزوجته تحت أنقاض المنزل المدمر، دون ماء ولا يميزون الليل من
النهار، وكان الباحثون عن الضحايا، قد وجدوا في وقت سابق آثار شهداء العائلة الأطفال وكانت
منظراً مريعاً، حيث الأمهات لقين حتفهن وهن يحتضن أولادهن والجثامين بدأت في التحلل.
ونقل الناجيان إلى المستشفى لتلقي العلاج من الجفاف وبعض الرضوض التي تعرضوا لها خلال
الأيام الماضية.
شهادات حية
ويتطرق الكاتب والمحامي وليد دويكات إلى حالة المشفى الميداني الذي كان مركزاً لاستقبال الشهداء
والجرحى، وكان مقاماً في جامع "البيك" العتيق في قلب البلدة القديمة، وتوافد الجرحى والشهداء
بالعشرات إلى هذا المشفى "المتواضع"، وكانت المسئولة عنه المواطنة زهى فريتخ، قد استشهدت
في اليوم السابق للاجتياح.
وكان في المشفى طبيبان وصيدلي وعدد من المتطوعين، عملوا على خدمة هذه الأعداد الهائلة
وخدمات متواضعة، أسهمت بشكل أو بآخر في إنقاذ حياة البعض، في حين كانت الصعوبات التي
كان يمر بها المشفى قد أدت إلى عدم قدرة العاملين فيه على إنقاذ عدد آخر من المصابين.
ويستعرض دويكات عدداً من الشهادات الميدانية الحية لصيدلي وطبيبة كان يعملان في المشفى أثناء
فترة الاجتياح، واللذين تحدثا فيها عن تجربتهما خلال تلك الفترة المؤلمة.
معسكرات الاعتقال
تم تحويل معسكر "حوارة" بعد الاجتياح، حيث شنت قوات الاحتلال حملة اعتقالات عشوائية،
اقتلعت مئات الشبان ومواطنين من مختلف الأعمار من منازلهم بدون سابق إنذار ودون مراعاة
لأوضاعهم الصحية، مع الضرب وتوجيه متواصل للإهانات.
واستعرض الكاتب قصة الصحفي محمد دراغمة مع الاعتقال في معسكر حوارة، التي رواها للكاتب
وتعبر عن مدى المعاناة والرعب الذي يعيشه المعتقلون في هذا المعسكر.
ومن شهادة الصحافي دراغمة التي وردت في الكتاب يقول: "يتحول الليل في المعسكر إلى ميدان
واسع للتعذيب والامتهان، يدخل الجنود بهراواتهم، وينتقون من يريدون من المعتقلين ويبدأون
بممارسة ساديتهم عليهم.. قل إنك تحب حرس الحدود، قل إنك حمار، قل كذا وكذا بالعبرية".
ويضيف دراغمة: "ومن لا يستجيب تنهمر عليه الهراوات، يرتعش جسدك وروحك وأنت تسمع
صوت الهراوات وهي تصطدم برؤوس الفتية الصغار، الذين ينتقيهم الجنود غالباً لممارسة ساديتهم
عليهم".
وورد في الكتاب أيضاً نقلاً عن الصحافي دراغمة قوله: "تشاهد من تحت عصبة العينين رجلاً
خمسينياً معاقاً يستخدم عجلة لمساعدته على المشي، وآخر ستيني يلف رأسه بكوفية، وثالث على
كرسي متحرك، وتتساءل أي إذلال هذا؟!"، ويضيف "تستعرض الوجوه وتدرك الحقيقة، كلنا هنا
من أجل التعذيب والامتهان وليس أي شئ آخر".
صور من الاجتياح
عنوان وضعه الكاتب لأحد مواضيع الكتاب، يتناول فيها صوراً للأحداث من خلال قصص لبعض
الشهداء ومنهم عدد من رجال المقاومة، ومنهم باسل الزغلول، الذي أورد الكاتب أنه عندما نقل
جثمانه المدفون من أرض المشفى الميداني إلى مستشفى رفيديا، وجد أن جثمانه كان لا يزال يقطر
دماً وهو ما أثار دهشة الحاضرين.
وكذلك الشهداء نضال عبيدات، ونضال عودة، والشهيد سمير دويكات، الذي فاجأته رصاصة من
نافذة منزله بينما كان ينتظر أهله لإقامة الصلاة- التي حرمهم الجنود من إقامتها في بيوت الله-،
وعندما جاءت زوجته تناديه للصلاة وجدته ملقىً على كرسي جثة هامدة.
وأفرد الكاتب صفحات للحديث عن الشهيد مؤيد الجميل "السنفور"، الذي كان يسعى لنيل الشهادة
دفاعاً عن مدينته، بينما كانت والدته متوجهة إلى مدينة عكا في فلسطين المحتلة 1948م لتخطب
له فتاة من هناك، وأجرى الكاتب مقابلة مع والده للحديث عن مناقب الشهيد والدرب الذي سلكه إلى
الشهادة.
وكان مقاومته المشهود لها خلال الاجتياح نبراساً، فقد حمل سلاحه وقاوم حتى نيل الشهادة، فقد جاء
إلى المشفى الميداني ثلاث مرات، في الأولى جاء للعلاج من إصابات لحقت بيده، وفي الثانية من
شظايا، وأصر عليه طاقم المشفى البقاء هناك، لكن موعده مع الشهادة كان يناديه ونزل إلى ساحة
القتال حتى تم نقله إلى المشفى شهيداً بعد إصابته بشكل مباشر بقذيفة "أنيرجا" في صدره لتمزق
جسده الطاهر، وينتقل على الرفيق الأعلى.
أضرار كبيرة
واستعرض الكاتب دويكات أسماء الشهداء الذين بلغ عددهم 74 شهيداً على الأقل ومئات الجرحى،
وما يزيد عن 366 من المعتقلين خلال الاجتياح في جدول أرفقه في ختام كتابه.
وتطرق دويكات إلى بعض الإحصائيات حول الأضرار التي تكبدتها المدينة في المدارس والمنازل،
فقد تعرضت 14 مدرسة في المدينة إلى دمار بين كلي وجزئي، كذلك تعرض ما يفوق مائتي منزل
لأضرار متفاوتة بين كلية وجزئية بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بالمرافق الرئيسية والبنية
التحتية وشبكات المياه والكهرباء في المدينة.
ويستذكر الكاتب عدداً من المواقع التاريخية التي نال منها قصف الاحتلال، ومنها مسجد الخضرة،
الذي بني قبل حوالي مائتي عام، وفندق الياسمينة، الذي بني قبل 250 عاماً، وتم تدميرهما بشكل
كامل خلال الاجتياح، وعدد آخر من المواقع الهامة التي تعرضت لأضرار متفاوتة بين تدمير كلي أو
جزئي، مثل خان التجار وساحة القريون، وكذلك مصانع الصابون أو ما تعرف بـ "الصبانات"
التي اشتهرت بها المدينة.